يظن بعض من لا خبرة له بالأقوال ولوازمها ومآلاتها أن الخلاف في فضل الإمام النووي هينٌ غير ضار، لا يستدعي صخبا أو ضجيجا.
لكن حقيقة الحال أن الخلاف لا يختص بشخص النووي، وإنما يتعلق بمُحْكمٍ شرعي وأصلٍ أخلاقي وخصيصة من خصائص أهل السنة، وهي قول العدل {وإذا قلتم فاعدلوا} والقيام بالقسط {كونوا قوامين بالقسط}، مع الموافق والمخالف، وصيانة مقام وحرمة العلماء، الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والفضل، حتى صار إسقاطهم جملة طعنًا في إجماع الأمة وحرمة الشرع.
إنما تبوأ النووي مركز الصراع لأنه من أحسن العلماء الذين وافقوا المتكلمين (في بعض أقوالهم الباطلة) سيرة، وأمثلهم طريقة، في العلم والعمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قال فيه الذهبي وابن كثير وابن العطار وغيرهم من الأئمة من الثناء ما هو مشهور.
كما أنه كان معظما للوحي متبعا له، حتى هان عليه أن يخالف إمامه الشافعي، بل وجمهور الفقهاء في مسائل اتباعا للسنة، ولم يكن خائضا في الكلام أو معظما له، بل كلامه صريح في نهي العوام عنه وذم المنطق، وترجيح طريقة السلف، وإن كان في تصوره لقول السلف خللٌ وضعفٌ كما هو الغالب على علماء عصره وقبله وبعده، فوقع بسبب ذلك فيما وقع فيه مما يخالف قولهم.
__
المقصود … أن النووي مع ما تقدم من أوجه للإعذار، وما روي عنه من فضائل إن لم يستحق بذلك الإعذار والتوقير والثناء، فمن سيبقى لنا! وماذا سيقول هؤلاء في الغزالي والجويني ونحوهما، وبماذا سيحكمون على الرازي والآمدي وأضرابهما.
فمثل النووي لو سلمناه، ورضينا بتجريحه فتحنا أبواب البغي وهدمنا جدار صيانة العلم وأهله، وستنهال سهام التجريح على من لا يحصى من الفقهاء والمفسرين والقراء واللغويين، ولن يسلم لنا إلا النادر، ولا حتى ابن تيمية ومن معه من علماء السنة المحضة.
وفي مآل هذه المسيرة المظلمة انقطاع شباب الأمة عن تراثها وعلومها، وضعف ثقة المسلمين في مسائل العلم بعد الطعن في حملتها، وسقوط هيبة إجماع الأمة فلم يكن من أجمعوا على فضله إلا مبتدعا مارقا … إلخ المفاسد.
وهذه كلها من مقاصد أعداء الدين ومن يريد هدمه، دون أن يهتدوا إلى هذا السبيل، وإنما سلك ذلك بعض خفاف العقل والعلم، لما استكثر واستنصر من يبغون إحياء البدع الكلامية ببعض الأفاضل كالنووي وابن حجر ونحوهما، فأغرى الشيطان حدثاء الأسنان وزين لهم الطعن في هؤلاء الأفاضل بدعوى الانتصار للسنة.
وحقيقة الأمر أنهم لا للسنة نصروا ولا لحرمة العلم حفظوا، بل نقلوا معركتهم ومرمى سهامهم ممن يريد إحياء البدع إلى من ينصر السنة ويدعو لها مع العدل والإنصاف.
ولو أن هؤلاء صبروا على تحصيل العلم وتزكية النفس، وإحكام طريقة علماء السنة في هذا الباب لتمكنوا من نصر السنة دون بغي، لكن زين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن السبيل، وأوقعهم في أوحال البغي وخصومة أهل العلم، نسأل الله تعالى العافية والسداد.

الشيخ عمرو عفيفي