رأيتُ اعتراضًا يكرره بعض الإخوة على من يقرر عذر المتأوِّلين من العلماء: بأنَّ من يكفِّرهم يجب أن يكون معذورًا كذلك، فلماذا لا تعذرونهم كما تعذرون غيرهم.
وهذا سؤالٌ مهمٌّ أن يجاب عنه، وقبل الجواب لا بد من تقرير معنى ملحٍّ هنا، وهو:
أنَّ بحث “الإعذار” هو بحث تالٍ لبحث معرفة الحق والباطل، والصواب والخطأ، فلا يصح أن ينتقل الحديث إلى الإعذار مع عدم التسليم بكون الفعل غلطًا أو انحرافًا.
لأنَّ الواجب على المسلم أن يبتعد عن المحرَّمات، ويحتاط لدينه، ويتجنَّب ما يكون سبباً لسخط الله عليه، وليس أن يبحث عن عذره عند الله لو وقع في ذلك!
فيجب تقرير الواجب في باب الاعتقاد، ثم بعد ذلك البحث في أعذار من وقع في تأولٍ، وليس أن يأتي شخصٌ فيطالبنا بالحديث عن التأوّل له لأنه معذور!
ولهذا فباب التأول يأتي غالباً على أناسٍ لقوا الله، ورحلوا عن الدنيا، ولم يعد ثمَّ حاجة إلى الخوض في أعراضهم، فيكل المسلم أمرهم إلى الله، ويحسن القول فيهم، ويتأول لهم، فهنا يأتي الحديث عن التأوُّل، التزامًا بالأصول الشرعية الدالة عليه، ولأنَّه لا ثمرة من الطعن في أشخاصهم، بل فيه مفاسد كثيرة لا تخفى على عاقلٍ، وهو مظنَّة للاختلاف بين المسلمين، وإثارة النزاع، بلا مصلحةٍ ظاهرة في حفظ دين الناس، بل أثرها في إضعاف بعض الأصول الاعتقادية عند الناس بينٌ ظاهرٌ.
كما يمكن تحقيق المصلحة الشرعية في بيان الحق ورد الباطل وتوضيح الأصول الشرعية دون حاجةٍ إلى مثل هذه الاستطالة في أعراض المسلمين.
وسأضرب مثلًا يوضح المقصود أكثر:
فلو جاء شخصٌ وأراد أن يستحلَّ بعض دماء المسلمين بتأوُّل، فإنَّ الواجب الشرعي هو في التشديد عليه، وتعظيم النكير، ومنعه عن هذا الأمر الذي يفعله تأولاً، ولو احتج هذا الشخص بما جرى من حوادث التأول في التاريخ الإسلامي لتبين أنَّ ثمَّ فرقًا كبيرًا بين حدثٍ تاريخي مضى لم يعد ثم مفسدة مترتبة عليه، وبين واقعٍ يخشى من المفسدة فيه، ووقوع الإثم، فلا يجوز التهاون مع مثل هذا بدعوى التأول.
وكذلك باب الاستطالة بالتكفير على أهل العلم السابقين، فهو كما يقول ابن تيمية في مثل هذا السياق تحديداً إنَّ: (تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات).
فيجب التحذير منه، وبيان غلطه، وتوضيح المآلات الخطيرة عليه،
فإذا تعذَّر بالتأوُّل فلا معنى لذلك في هذا السياق، لأنَّ الواجب عليه ترك هذا الأمر والتوبة منه، والواجب أيضًا كف شره، وأما التأول بعد ذلك فقد يكون معذورًا عند الله، وأمر التأول في هذا كالتأول في غيره، لكن لا يجوز أن يبحث موضوع التأول في مثل هذا السياق.
ولهذا شواهد مقاربة:
فلو اجتنب المسلم الكبائر قيل له برجاء أن يغفر الله لك الصغائر، لا أن يفعل الصغائر وهو يرجو مغفرتها لأنَّه مجتنبٌ للكبائر!
ومثلها من يفعل الحسنات المكفرة للسيئات فهو يفعلها رجاء مغفرة ما وقع من سيئاتٍ، لا أن يقع في السيئات لأنه سيفعل الحسنات المكفرة!
فهذا التمييز بين الأمرين هو من جنس التمييز في باب التأول، تمييزٌ بين أمرٍ منكر يجب بيانه والتحذير منه وكف شره، وبين الحكم على أعيان القائمين به بعد ذلك،
وهذا يشمل أيضاً نفس التأول الذي نلتمسه لأهل العلم السابقين، فلا نضع التأول بين يدي الأحياء الواقعين في هذه المخالفات حتى يكون سببًا في إضعاف الحق الواجب عليهم، وإنما يجب بيان الحق لهم، وتخويفهم من ضرر مخالفته، ويكون التأول بعد ذلك تاليًا حتى لا يكون سببًا في التهوين من القيام بأمر الله، وحفظ حقوقه.
د. فهد بن صالح العجلان