الحكم في الكف عما شجر بين الصحابة يشمل أيضًا الكف عن غيرهم من أهل العلم والفضل في هذه الأمة في الطبقات التي تليهم، فكلُّ طبقةٍ تستعمل مع التي قبلها الدعاء لها بالمغفرة.

هذا من المعاني العظيمة التي أكَّد عليها أبو العباس ابن تيمية في عددٍ من المواضع، وهو من استدلالته الحسنة الكاشفة عن بصيرةٍ وعقلٍ وفقهٍ،

فالمعنى الذي من أجله يجب أن تكفَّ الألسن عن الانشغال فيما لا ينفع مما شجر بين الصحابة، وما يثيره من مفاسد، هو نفسه متحقق في الطبقات التي تليهم وإن كان دونه في المصلحة والمفسدة.

وهذا المعنى له ثمرة مصلحية عظيمة، ولا يترتب عليه أي مفسدة في الدين، لأنه لا يعني ترك بيان الحق، ونشره، والرد على الباطل، وإنما يجب أن يكون ذلك نصحًا في حدود الحاجة، وبما يحقق المصلحة، من دون بغي أو استطالة، ولا تضييع لحقوق الإخوة، ولا خوض فيما لا ثمرة منه، فيجتمع معها حفظ الدين، وبيان الحق، وسد منافذ التفرق والاختلاف عليه.

وهذه بعض نصوص الشيخ رحمه الله في توضيح هذا المعنى السلوكي الإيماني:

١-
(ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلامًا بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة).

٢-
(وذكروا أشياء لا أُحِبُّ ذكرها؛ لأن المتكلِّم بها عظيم، والمتكلَّم به عظيم، وهم أئمة مجتهدون فالكلام في ذلك يُشبه الكلام فيما وقع بين الصحابة؛ إذ المعنى المقتضي لذلك يعم الصحابة وسائر طبقات الأمة؛ إذْ كُلُّ طبقةٍ مُتأخرة ينبغي أن تستعمل من الطبقة المتقدمة معنى هذه الآية: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

ومعلوم أنّ كلام العلماء بعضهم في بعض – بالاجتهاد تارة، وبنوع من وغيره أخرى – يُشبه ما وقع بين بعض الصحابة وبعض من القال والفعال).

٣-
(بل نحن منهيون عن الكلام فيمن هو دون الصحابة بالكلام الذي تترجح مفسدته، وإن كان لأولئك ذنوب أو اجتهادات مخطئة أو غير ذلك، فإن الكلام فيما شجر بينهم بغير الوجه المشروع قد يكون:
-كذبًا،
-وبعضه تصديقًا للكذب وهذا كثير،
-وبعضه صدق وله وجوه حسنة في الباطن لا نعلمها،
-وبعضه صدق أيضًا، وهو من الاجتهاد الخطأ المغفور،
-وبعضه صدق وهي ذنوب،

فإنه ليس من أهل السنة من يعتقد في أحدٍ منهم أنه لم يكن له ذنبٌ، بل يكون لهم ذنوب فيتوبون منها أو تمحوها حسناتهم السابقة واللاحقة أو غير ذلك من الأسباب الماحية للذنوب،

ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يقتدي بمذنبٍ في ذنبه كائنًا من كان، ولا أن يقدح فيه به إذا كان من الذنوب المغفورة كالخطأ والصغائر والكبائر الممحوة بثوابه أو حسنات ماحية أو غير ذلك، فكيف بالصحابة).

د.فهد العجلان