قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار، لفوات شرط أو لحصول مانع. وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها. قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق. وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده. أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها. أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.
فمن كان مؤمنا بالله وبرسوله، مظهرا للإسلام، محبّا لله ورسوله، فإن الله يغفر له لو قارف بعض الذنوب القولية أو العملية. سواء أطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي. هذا الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام. لكن المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل، بالفرق بين النوع والعين. بل لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعيّ، أنهم لا يكفرون المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل. ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية لأنه ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل.
وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة. لكن ما كانوا يكفرون أعيانهم. فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه. والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط. والذي يكفّر مخالفه أعظم من الذي يعاقب. ومع هذا فالذين من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق. وإن الله لا يرى في الآخرة. وإن ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله، ولا الأحاديث الصحيحة. وإن الدين لا يتم إلا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة. وأن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وإن أقوال الجهمية والمعطلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله. بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الإمام أحمد وجلدوه وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين. ومع ذلك لا يطلقون أسيرا ولا يعطون من بيت المال إلا من وافقهم ويقرّ بقولهم. وجرى على الإسلام منهم أمور مبسوطة في غير هذا الموضع. ومع هذا التعطيل الذي هو شر من الشرك، فالإمام أحمد ترحّم عليهم واستغفر لهم، وقال: ما علمت أنهم مكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا جاحدون لما جاء به.
لكنهم تأوّلوا فأخطأوا. وقلدوا من قال ذلك. والإمام الشافعيّ لما ناظر حفص الفرد، من أئمة المعطلة، في مسألة (القرآن مخلوق) قال له الإمام الشافعيّ: كفرت بالله العظيم. فكفّره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك. ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله.
وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدريّ والجعد بن درهم وجهم بن صفوان إمام الجهمية وغيرهم. وصلى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين. وصار قتلهم من باب قتل الصائل. لكفّ ضررهم، لا لردتهم. ولو كانوا كفارا لرآهم المسلمون كغيرهم.
المصدر: محاسن التأويل للقاسمي